Loading...

الصراع بين الأطراف المتنافسة وأثره في إثارة أطماع القوى الخارجية

اليمن في التاريخ الحديث أنموذجاً

قبل الولوج في الموضوع يجدر التنويه إلى أن الفترة الزمنية التي نتصدى هنا للكتابة عن وقائعها التاريخية تعد طويلة، و بعض أحداثها متداخلة متشابكة،  بل و شائكة في الآن ذاته، فهي تشتمل على معظم أطوار و وقائع و تاريخ اليمن الحديث، منذ انضواء اليمن تحت لواء الحكم العثماني عام 1538م ، و حتى ثلاثينات القرن العشرين  . و من ثم يصعب و الحال كذلك تغطية تفاصيل تلك الفترة كاملة في مقالة أو حلقة سردية واحدة، إذ أن الأمر يتطلب سلسلة حلقات متصلة موضوعاً و زمناً، لذلك سأحاول أن أجعل التركيز على أبرز المحطات التاريخية ذات العلاقة المباشرة بالموضوع، لا سيما أني أكتب من الذاكرة، بحكم تخصصي في تاريخ اليمن الحديث و المعاصر، و الهدف من هذه التناول في واقع الأمر هو وضع القارئ في ملامح صورة ما كانت عليه أوضاع اليمن و على وجه الخصوص الأوضاع السياسية، كمقاربة تاريخية لا ترقى إلى الحقيقة الكاملة أو المطلقة بالضرورة، و كخلفية لما آلت إليه أحوال اليمن بعد ذلك و حتى اليوم.

و الموضوع ينقسم إلى المحاور التالية :-

1. الصراع بين آل شرف الدين والطاهرين و أثره في إثارة أطماع قوى المماليك و العثمانيين في اليمن.

2. الصراع بين آل شرف الدين و أثره في إثارة أطماع القوى العثمانية.

3. الصراع بين الأطراف السياسية في الأجزاء الجنوبية و الشرقية من اليمن و أثره في إثارة أطماع القوى البريطانية .

4. الصراع بين آل القاسم و أثره في إثارة أطماع القوى   العثمانية 1849،1872 م .

5. الصراع بين أشراف المخلاف السليماني ثم بين الأدارسة والإمام يحي و أثره في إثارة أطماع القوى الوهابية و محمد علي باشا و آل سعود.

أولاً : الصراع  بين آل شرف الدين و الطاهرين و أثره في إثارة أطماع قوى المماليك و العثمانيين في اليمن .

مثلت بعض مناطق المرتفعات  الشمالية و الشمالية الغربية من اليمن المجال الجغرافي و المعقل المذهبي (الزيدي) و السياسي لآل شرف الدين يحي، كقوة طامحة في الحكم، و بخاصة مناطق ثُلا و كوكبان و ملحان و حفاش و أجزاء من حجة، في مقابل سلاطين" بنو طاهر بن معوضه تاج الدين"  التي مثلت بعض  أجزاء المناطق  الوســـــطى من الهضـــبة الشمالية و بعــــض المنخفضات السهلية حتى عدن  مجالهم الجغرافي، و قد حكم العلاقات بين الطرفين منطق القوة و التغلب فكانت الصدامات العسكرية سجالاً بينهما، و هو الصدام المبني على قاعدة احتكار التفوذ السياسي ذي العمق الاقتصادي و محاولة توسيع رقعته الجغرافية و البشرية، فكانت عدن الميناء الاقتصادي المهم هي محور ذلك الصراع، في الوقت الذي تبرز فيه أطماع البرتغاليين، و تصل قطع من سفن أساطيلهم العسكرية إلى موانئ جنوب البحر الأحمر و المحيط الهندي، في محاولات يائسة لإيجاد موطئ قدم لهم في عدن و الشحر و جزيرة سقطرى و حتى ساحل عمان، و إطباق الخناق على المنطقة و ربطها بأطماعهم في شبه القارة الهندية، حيث مصدر انتاج التوابل؛ تلك الأطماع التي أسال لعابها احتدام الصراع بين الطاهرين و آل شرف الدين، و إن لم يتمكن البرتغاليون من تحقيقها بفضل المقاومة التي أبداها اليمنيون ممثلة بالطاهرين في عدن بالتعاون مع قوة سلاطين الدولة الكثيرية في ميناء الشحر، بمساندة من البحرية المملوكية ثم العثمانية لاحقاً . 

و كان أبرز شاهد على احتدام الصراع بين آل شرف الدين و الطاهرين قد تمثل في تأليب الإمام شرف الدين الأمير " حسين الكردي " قائد الحملة   المملوكية  الموجهة ضد البرتغاليين على السلطان عامر بن عبد الوهاب الطاهري، بذريعة تواطئه مع البرتغاليين لاحتلال السواحل اليمنية ، الأمر الذي لاقى صدى لدى الأمير الكردي، لا سيما بعد أن رفض السلطان عامر بن عبد الوهاب تلبية طلب الـمماليك في توفير الـمال و الـمؤن للحملة عند مرورها بالـموانئ اليمنية الجنوبية الخاضعة للطاهرين ، و ذلك لخشيته من أن تصبح جزية سنوية يقدمها للماليك، فتمكن الـمماليك بعد معارك مع القوات الطاهرية من قتل السلطان عامر بن عبد الوهاب في صنعاء عام 1517م، و الاستيلاء على صنعاء و سائر مناطق نفوذ الطاهرين، و لم تطل مدة احتفاظ المماليك بصنعاء و غيرها من الـمناطق التي استولوا عليها، إذ لم يلبث أن سيطر عليها الإمام شرف الدين و أولاده المطهر و علي باتفاق جرى بينهم و بين الـمماليك، بعد أن ضعف نفوذ الـمماليك، نتيجة لسقوط دولتهم في مصر و الشام في أيدي العثمانيين عام 1518م، و بقيت الصراعات بين بقايا الطاهرين و آل شرف الدين مشتعلة بعدئذٍ و كان من أبرز شواهدها مجدداً إيغار الإمام شرف الدين صدر " سليمان باشا الخادم " قائد الحملة العثمانية ضد البرتغاليين في البحر الأحمر  على الأمير " عامر بن داود الطاهري" بالذريعة   السابقة ذاتها، و هي اتفاقه سراً مع البرتغاليين على تسليمهم عدن، نتج عن هذه الوشاية إعدام القائد العثماني للأمير عامر بن داود، و استيلائه على عدن، و كان عامر بن داود قبل ذلك قد حاول تأليب القائد العثماني على الإمام شرف الدين للتخلص من عداوته، واصفاً الإمام شرف الدين و أبنائه بتماديهم في الطغيان و إيغالهم في سفك الدماء، استناداً على الحملة التي جردها المطهر بن شرف الدين ضد من بقي من قوات الطاهرين في رداع و عدن و تعز و إب، و التي قتل فيها أعداداً كثيرة منهم، و بعد مقتل عامر بن داود آخر حكام بني طاهر، تحكم العثمانيون و آل شرف الدين بالمشهدين السياسي و الجغرافي و اشترك الطرفان في صناعة الأحداث و رسم خارطتها على الأرض، لا سيما في المناطق الشمالية الداخلية .  

ثانياً : الصراع  بين آل شرف الدين و أثره في إثارة أطماع القوى العثمانية .

تأسس الصراع بين آل شـــرف الدين الذين مدو سيطرتهم إلى الـمناطق الجنوبية و قاعدتها مدينة تعز ، على إثر اضمحلال قوة كل من المماليك و بقايا الطاهرين هناك ، و كان ذلك على قاعدتين رئيستين :

إسناد الإمام شرف الدين ولاية العهد لابنه الثاني " علي " دون ابنه الأكبر المطهر، بحجة أن علياً أكثر علماً و أفضل خلفاً من المطهر ، و لأن المطهر لا تتوفر فيه شروط الإمامة و منها شرط سلامة الجسد، فقد كان لديه عرج في قدمه، على الرغم من أن النظرية "الزيدية" لا تقر فكرة ولاية العهد، مما أوغر صدر المطهر على أخيه علي، و أذكى  بينهما نار العداء و المواجهات .

 تقسيم الإمام شرف الدين ممتلكاته بين أولاده كإقطاعات عام 1541م، بحجة كبر سنه و اعتلال صحته، الأمر الذي أثار روح التنافس و التباغض بين الإخوة على السيطرة و النفوذ.

وهذان الأساسان أفضيا بالمحصلة إلى تأجيج الصراع على السلطة بين المطهر و أبيه و إخوته من ناحية، و بين الإخوة من ناحية ثانية، ثم بين أولاد المطهر بعد وفاته من ناحية ثالثة.

• فـ مكن هذا الصراع و الانقسام داخل البيت الزيدي العثمانيين من مد سيطرتهم من السواحل الممتدة شرقاً إلى المرتفعات الشمالية الداخلية، لا سيما بعد أن لجأ المطهر إلى القوات العثمانية ليستقوي بها على أبيه بعد أن انشق عنه، و ليتمكن بمساعدتها من الاستيلاء على السلطة، ظاناً كما يظهر أن مساعدة العثمانيين له لن يكون ثمنها السيطرة على كافة أجزاء البلاد و التمكين للسلطنة العثمانية فيها، و أنه بعد استحواذه على مقاليد الحكم سيعمل على مقاليد الحكم سيعمل على تنظيم صفوفه و دحر العثمانيين من مناطق نفوذه، و هو ما لم يتحقق آنذاك .

فقد أثار الصراع بين آل شرف الدين أطماع القوات العثمانية في التوغل في المناطق الداخلية ، و عملت تلك القوات على تدعيم سيطرتها، بعد أن أضعفت جبهة المقاومة الزيدية التي عانت أصلاً من التفتيت الداخلي بعد وفاة المطهر و صراع أولاده على السلطة .

ثالثاً: الصراع بين الأطراف السياسية في الأجزاء الجنوبية و الشرقية من اليمن و أثره في إثارة أطماع القوى البريطانية .

تشكلت في الأجزاء الجنوبية و الشرقية من اليمن منذ أمد بعيد ـ عدا مدينة عدن ـ العديد من الكيانات السياسية القبلية، و صارت شبه مستقلة عن بعضها البعض بمرور الزمن، ممثلة بقبائل : العبدلي و الفضلي و العوذلي و الحوشي و الصبيحي و العقربي و يافع و الأميري و الهبيلي و الرصّاص و الكثيري و الواحدي و القعيطي و الكسادي و آل بريك و العمودي، انضوت معظم تلك الكيانات و بخاصة تلك المجاورة لعدن في إطار الدولة القاسمية عند نشوئها في عهد الإمامين المؤيد محمد بن القاسم ت 1644 م  و المتوكل إسماعيل ت 1676 م و الأئمة من بعدهما، و رغم محاولات تلك الكيانات خلع طاعة الإمامة القاسمية و جهود الأخيرة لإخضاعها أكثر من مرة في عهد كل من المتوكل إسماعيل و المهدي محمد بن أحمد صاحب المواهب، إلا أن خروجها النهائي عن السلطة القاسمية تم في عهد الإمام المنصور الحسين بن القاسم 1717ـ1728 م استكمالاً لبدايات خروجها في فترة حكم الإمام المؤيد محمد بن إسماعيل 1681ـ1686م الذي اتسمت سياسته العامة بالضعف، و تحول أمراء آل القاسم إلى مراكز قوى مستبدة بما تحت أيديها من البلاد دون الرجوع إليه، مستغلة تلك الكيانات انشغال الأئمة بتسوية صراعاتهم البينية على السلطة .

و لم تكن العلاقات بين بعضها البعض في حالة من السلم دائماً، فقد تخللتها جولات من التنافس على النفوذ و السيطرة، فضلاً عن الصراع على السلطة داخل الأسر الحاكمة نفسها، و استمرت الخلافات تعصف ببعضها بعضاً و بخاصة في كبريات مدن حضرموت " الشحر و شبام و سيئون و تريم" في عهد السلطنة الكثيرية ـ على سبيل المثال ـ و التي شهد عهدها الذي امتد إلى الاستقلال في نوفمبر 1967م، اضطرابات و صراعات كثيرة انعكست تأثيراتها بنسب متفاوتة على عدم استقرار الأوضاع الداخلية لتلك الكيانات و تركت أثراً في تسهيل مهمة القوات البريطانية لإحكام قبضتها على مدينة عدن عام 1839م ، و ربط سيطرتها على المدينة بمعاهدات حماية و استشارة مع تلك الكيانات، أفقدتها شخصيتها المستقلة و عززت سيطرتها عليها في غضون ذلك باتباع سياسة " فرق تسد " ، تلك السياسة التي استمرت باستمرار توتر العلاقات بين تلك الكيانات " المحميات " كما أن انقسام الصف النخبوي العدني خلال ـ خمسينيات القرن الماضي ـ على الأقل ، و انضوائه داخل أطر ضيقة، بين جعل عدن هوية مستقلة عن بقية الكيانات عدن للعدنيين، ثم هندسة الاحتلال لمشروع اتحاد إمارات الجنوب العربي 1959م  ، هذا الكيان الذي يهدف إلى فصل كيانات الداخل اليمني الجنوبي عن عدن، و ما تمخض عن هذه الأطر من تكريس للتجزئة، ناهيك عن الصراع بين الجبهة القومية و جبهة التحرير في نوفمبر 67م ، كل ذلك غذى مشروعات القوى الاستعمارية التفتيتية   في جنوب اليمن، و هو ما يعطينا صورة عن القابلية الداخلية للتشظي آنذاك، في سياق هويات صغيرة تساعد على ترسيخ أطماع القوى الخارجية، و إن اتخذت تلك الأطماع مدى زمني محدد .  

رابعاً : الصراع  بين آل القاسم و أثره في إثارة أطماع القوى العثمانية 1849م ، 1872م .

شهدت أجزاء البلاد الخاضعة للإمامة القاسمية الكثير من الاضطرابات الناتجة عن تنافس آل القاسم و صراعاتهم على السلطة، و قد اشتد الصراع في فترة حكم الأئمة الضعاف منذ الإمام المنصور علي الثاني بن المهدي عبد الله خلال الفترة من ثلاثينات القرن التاسع عشر و حتى عودة الحكم العثماني للبلاد 1872م ، و بإلقاء نظرة سريعة على خارطة الصراعات السياسية و الجغرافية بين آل القاسم يتبين لنا الآتي :

الإمام غالب بن محمد بن يحي في بعض الأجزاء الشمالية الغربية المطلة على تهامة، محمد بن عبد الله الوزير في مرتفعات بلاد آنس، المحسن بن أحمد الشهاري في كُحلان من نواحي حجة، حسين بن أحمد الهادي في بلاد الطويلة شمالي غرب صنعاء، ثم المنصور بن هاشم الويسي، و المنصور محمد بن عبد الله الوزير، و المؤيد العباس بن القاسم بن محمد في صنعاء و بعض نواحيها ..، أفضى هذا التنافس و الصراع بالمحصلة إلى تمزيق البلاد، و فقد معه الأمن، و فشت أعمال السلب و النهب و القتل و التقطع من جانب بعض القبائل، مما حدا بأهل صنعاء إلى تنصيب الشيخ محسن مُعيض و الحاج أحمد الحيمي كبار رؤساء الحارات حكاماً للمدينة فقام حكمهما على التنكيل بالأهالي، و بخاصة التجار و الحرفيين الذين فرضوا عليهم إتاوات باهظة، جعلتهم في حالة رفض و مواجهة لها، أثارت هذه الحالة أطماع القادة العثمانيين في بعض نواحي تهامة ـ التي استقر مقامهم فيها منذ 1849م بعد استنجاد الشريف حسين بن علي حيدر بهم لدعمه ضد منافسيه و على إثر جلاء قوات محمد علي باشا عنها ـ و أخذوا يرقبون ما ستؤول إليه الأمـــور في صنعاء عقب إخفاق محاولة سيطرتهم عليها عام ١٨٤٩م، بعد أن استدعاهم الإمام المتوكل محمد بن يحيى للاستقواء بهم ضد منافسيه، وقتله في نفس العام بتهمة الخيانة، فوجدوا الفرصة مواتية للتوجه إلى صنعاء، ولاسيما بعد أن راسلهم بعض وجهائها لإنقاذ البلاد وإقرار الأمن فيها، وفي مقدمتهم: علي بن المتوكل عبدالله وزيد بن أحمد الكبسي ومحمد بن يحيى حميد الدين وحسين جغمان وحسين الشامي ومحمد المطاع وآخرون. فتم للعثمانيين بقيادة المشير أحمد مختار باشا السيطرة على صنعاء، وانضوت البلاد مجدداً تحت السيادة العثمانية حتى عام ١٩١٨م، نهاية الحرب العالمية الأولى.

خامساً: الصراع بين أشراف المخلاف السليماني ثم بين الأدارسة والإمام يحيى وأثره في إثارة أطماع القوى الوهابية ومحمد علي باشا وآل سعود

اتخذت العلاقات بين أشراف مناطق ومدن المخلاف السليماني في تهامة (جيزان وصبيا وضمَد وعاصمتها أبو عريش) بعضهم البعض من ناحية، وبينهم وبين بعض الأئمة من ناحية ثانية طابع الصراع في معظم الفترة التاريخية الحديثة، وهو صراع تمحور حول السلطة والسيطرة، فقد كان أشراف المخلاف من الخواجيين والقطبيين وآل خيرات نواباً للإمامة القاسمية على بلادهم طوال عهدها، وما أن يتوفى أحد الأشراف حتى تنشب الصراعات بين أبنائه على السلطة، مما أغرى الأطراف الخارجية ممثلة بالحركة الوهابية في نجد بزعامة "محمد بن سعود" مؤسس الدولة السعودية الأولى (١٧٤٤ - ١٨١٨م) على مد نفوذها فيما يلي الحجاز جنوباً صوب عسير ومدن المخلاف السليماني، وفي أثناء الصراع بين آل القاسم بدءاً من الربع الأول من القرن التاسع عشر تحديداً حاول الأشراف الاستقلال بما تحت نفوذهم، ودب الصراع بين الشريف "حمود أبو مسمار" وشريف عسير "عبدالوهاب أبو نقطة"، وحاول كلا الطرفين التقدم صوب مناطق نفوذ الآخر، وتمكن أبو نقطة بعد دخوله في الدعوة الوهابية من النزول من مرتفعات عسير صوب مدينة أبي عريش عاصمة المخلاف، واصطدم مع قوات الشريف أبي مسمار، الذي تقهقر إلى جنوب المخلاف، بسبب الفارق بينه وبين خصمه في العتاد والقوة، ولجأ أبو مسمار إلى الإمام المنصور علي(ت١٨٠٩م) في صنعاء، طالباً منه الدعم العسكري، ولما لم يجد الدعم المطلوب دخل في طاعة الدعوة الوهابية، وتمكن بواسطتها من مواجهة عبدالوهاب أبو نقطة، والزحف على مدن جنوب المخلاف (حرض وميدي واللحية) حتى وصل إلى الحديدة، وتمّت له السيطرة عليها باسم الدولة السعودية الأولى، وحاول الإمام المتوكل أحمد بن المنصور علي (ت١٨١٥م) استرداد تلك المناطق من أبي مسمار فتم له ذلك جزئياً، ولم تلبث بعد زمن قصير أن دخلت تلك المناطق ضمن نفوذ "محمد علي باشا" والي مصر، الذي زحف بقواته من الحجاز لمطاردة فلول الوهابيين، وكبح تمرد قائده " تركجه بيلماز"، بعد أن قضى على الدولة السعودية الأولى عام ١٨١٨م وعاصمتها الدرعية، مستفيداً من صراع الأشراف، واضطراب أحوال المخلاف، وانكماش نفوذ الإمامة القاسمية، ولم تلبث قوات محمد علي أن انسحبت من المدن التهامية وتعز التي امتدت إليها سيطرتهم، وذلك بموجب مقررات مؤتمر لندن ١٨٤٠م، ثم تسليم تهامة للشريف "حسين بن علي حيدر" الذي دخل في صراع مع الأشراف، واستنجد بالعثمانيين الذين ساندوه لتثبيته في السلطة. وبعد أن ضعفت قبضة الأشراف على المخلاف بمرور الوقت وضعف نفوذهم، نتيجة للصراعات التي دبت في أوساطهم انتقل مركز الثقل السياسي في عسير والمخلاف السليماني إلى الأدارسة مطلع القرن العشرين، بزعامة "محمد بن علي الإدريسي"، الذي أسس إمارته، واستقر له الحكم فيها إلى أن توفى عام ١٩٢١م، وبعد وفاته دب الصراع بين ابنه "علي" الذي لم يكن جديراً بالحكم نظراً لصغر سنه، وبين عمه "الحسن" الذي آل إليه الحكم بعد ذلك، غير أن الحسن واجه العديد من الصعوبات الداخلية والخارجية، تمثلت في اضطراب أوضاع قبائل عسير، ومد انظار أشراف الحجاز وعبدالعزيز آل سعود على الإمارة الإدريسية، فضلاً عن مطالبات الإمام "يحيى حميد الدين" مؤسس المملكة المتوكلية اليمنية (١٩١٨ - ١٩٦٢م) بضم الإمارة لسلطته بصورة مباشرة، كونها جزءاً من أملاك دولته، مع رفض الإدريسي استمرار التبعية للعثمانيين، وبالتالي فقد وجد الحسن نفسه محاطاً بالأطماع من كل صوب، مع بروز الأطماع الإيطالية والبريطانية في المنطقة، ومحاولة إيطاليا السيطرة على مجموعة جزر "فَرَسَان" في جنوب البحر الأحمر، لاستخدامها كقاعدة عسكرية لحماية مستعمراتها في الساحل الشرقي الأفريقي (عصَب ومصوّع ودهْلك)، ومحاولات بريطانيا منعها من التوغل في جنوب البحر الأحمر - بوصفه بحيرة بريطانية - والسيطرة على جزره وموانئه الغربية، غير أن تطلعات عبدالعزيز آل سعود السياسية كانت أكثر بروزاً وحسما،ً فقد استغل عبدالعزيز ظروف الإمارة الداخلية والصعوبات التي واجهتها من الخارج وضغَط على الحسن الإدريسي لعقد معاهدة حماية معه عام ١٩٢٦م، وقد بدا أن الإدريسي يومها كان مضطراً لعقدها، ريثما يعيد تنظيم شؤون إمارته، لكن تلك المعاهدة ما لبثت أن تحولت إلى ضم للإمارة الإدريسية وإلحاقها بالدولة السعودية، فلجأ الإدريسي إلى الإمام يحيى عارضاً عليه أن يتسلم مقاليد الإمارة، غير أن تقاعس الإمام يحيى في حماية الأدارسة من عبدالعزيز آل سعود مكّن الأخير من إحكام قبضته عليها عام١٩٣٠م، وبسبب ذلك اندلعت الحرب بين الإمام يحيى وابن سعود، وانتهت باتفاق الطائف الشهير عام ١٩٣٤م. وهكذا رأينا كيف أن الصراع السياسي الداخلي بين الأطراف اليمنية قد أثار أطماع القوى الخارجية وسهل لها مهمة الاستيلاء على مركز البلاد وأطرافها، وهو أمر ما كان ليحدث لولا ما أفرزه الصراع الداخلي من ضعف وانقسام وتشرذم. وما أشبه الليلة بالبارحة .

دكتور رياض محمد الطوفاني

كاتب وأكاديمي يمني

التعليقات

اترك تعليقك هنا لنعرف رئيك

تعليقات من قراء

لا يوجد تعليقات الى الان