لقد تبوأت فلسطين من الوعي القومي العربي منزلة عز و فخر في صميم الوجدان و سرة الأمة الإسلامية، فكانت أولى الأولويات و مقدمة الاهتمامات و لا تزال كذلك جوهرة و عنواناً لامتداد الوطن العربي و تآزره .
و هي جزء من خارطة الوطن و شطر لا ينصف من الأمة العربية .
و يذكر التاريخ أسوء أيامه يوم الخامس عشر من آيار/مايو 1948 م حين اندلعت الحرب بين العرب و إسرائيل و انتهت بنكبة و حزن كبيرين بعد إعلان قيام دولة إسرائيل المزعومة، فكان هذا الحدث بداية أسطورة التأسيس الظالم للكيان الصهيوني، و ظل راسخاً في الذاكرة الجماعية للإسرائيليين بعد نجاح تصديرها للعالم الغربي و طمس الحقائق، لتحويل فلسطين العربية الشريفة إلى كيان صهيوني و لو على حساب ألم شعبها و تشريده و تحويله لاجئين إلى كافة بقاع الأرض بعد أن أصبح عالمهم بلا عدل و وطنهم بلا حق و هويتهم بلا مستقبل و حين شطب طغيان المستعمر بلد فلسطين من الواقع و الذاكرة .
و تعتبر النكبة الفلسطينية تلك انكساراً في التاريخ العربي، لأن التاريخ بعد النكبة أصبح خلافاً لعروبة الفكر .
و لا تزال عجلة الزمان تمضي مســـرعة، فالأيام
تطوى، و الشهور تنتهي، و الفلسطينيون يحلمون بالعودة إلى فلسطين التاريخية، رغم الجراح و الدم النازف و الآهات، و الآلاف من الأسرى الشجعان و مرور ما يقارب القرن زماناً و نحن على أعقاب العقد الثمانين من ذكرى النكبة الفلسطينية، التي يجب علينا أن نجعلها درساً للبناء الوطني و الوعي الجمعي علنا نستطيع انشاء برنامج موحد وطني و قيادة، ضمن استراتيجية تؤمن بالنهوض و الكفاح و النضال، كهدف أساسي و لا مناص منه .
تمر إذاً ذكرى النكبة و لا تزال الأراضي الفلسطينية مخضبة بدماء الشهداء الطاهرة النقية التي صبغت أرض فلسطين الأسيرة، و رغم تراكم القرارات، و الاتفاق عقب الاتفاق، لكن تظل حبرًا على ورق، و بعيداً عن الشرعية الدولية و القيم الإنسانية، و مع توسع الاستيطان أكبر، و التوغل أعمق، و تدمير البنية السياسية و الاقتصادية، زاد نزيف الدم الفلسطيني المذبوح في ذكرى النكبة لينتهي بتعقيدات سياسية أكثر .
الحصار الداخلي و الخارجي
يقام احتفال ذكرى النكبة من كل عام، و يعتبر احتفالاً وطنياً للفلسطينيين اللاجئين في المهجر لأنها تعبر و ترمز إلى الحزن الشديد للتهجير الجمعي و الطرد القسري و الــقتل؛ لذا
جاءت النكبة بعد الهزيمة التي لحقت بالفلسطينيين و العرب، و كانت النتيجة قاسية و مريرة و أليمة، و هي التشرد و سيطرة اليهود على أراضيهم، كما أن تداعيات النكبة كبيرة على الشعب الفلسطيني، فكانت الهجرة قمة التراجيديا في حياة الشعب الفلسطيني الذي وجد نفسه مشرداً مطرودا من أرضه و وطنه قسراً تحت زخات الرصاص المتطاير ، و دوي القنابل و القصف العشوائي المستمر، حينها ضاعت فلسطين و جاء الاحتلال مفرقاً بين الأهل و الأحبة .
و لم يكتفي الاحتلال بذلك، بل اتبع سياسة الحصار الداخلي و الخارجي ، فالداخلي حصار عن العالم حتى يظل الفلسطيني داخل الأسوار و الأسلاك الشائكة بعيداً عن المحيط العالمي و ثقافته و أعلامه ، أما الخارجي فيتمثل في كبت الفلسطينيين و المعاملة السيئة التي يتلقاها الفلسطيني في الدول العربية المقيم بها و الاضطهاد و معاملته لاجئًا، و باتت الدول التي فيها لاجئين غير مرحبة و رافضة لهم، على الرغم من الظلم الذي لحق بهم .
ركام الذكريات للفلسطينيين
فإن ركام الذاكرة ذاخر بتنضير الأفكار و بالمعطيات الظالمة و المشوهة للمحتل؛ لأنه لا يتاح لأي وطني أن يمارس النضال و رفع السلاح في وجه المحتل من أجل إنسانية الإنسان و المقاومة، لأن الاحتلال يستخدم أبشع أنواع وسائل الإجرام لدفع الفلسطينيين نحو ترك وطنهم .
و مع تزامن ذكرى النكبة، قتلت الصحفية و الإعلامية " شيرين أبو عاقلة "، حيث قتلت أثناء تغطيتها عملية للجيش الإسرائيلي في مخيم جنين في الضفة الغربية المحتلة، و قد كان القتل قنصاً بدم بارد أثناء تأديتها لعملها الصحفي، و شيرين ليست الأولى من الصحفيين الذين نالتهم يد العدو؛ بل من قبلها قتل الكثير من الصحفيين أثناء نقل الأحداث الإرهابية و الانتهاكات التي يقوم بها الإسرائيليين ضد الشعب الفلسطيني .
سياسة تهجير الفلسطينيين
و حينها كان التهجير الذي حدث في النكبة بمثابة نشاط عدائي للأيدلوجيا العنصرية، و مما لا شك فيه أن الإسرائيليين كان هدفهم إخراج شعب فلسطين من أرضهم كمــا هو ثابت في عقيدتهم الصهيونية التي تنص على إخلاء السكان الأصليين من ديارهم، للاستيطان اليهودي مكانهم .
انكار النكبة
على أية حال، يحاول الإسرائيليين إنكار النكبة، لكن كيف ينكرونها و هي حاضرة في الرواية الشفهية و الذاكرة الجمعية للأجيال التي عايشتها، و إن كثيراً من الشباب يبحثون عن معرفة تاريخ المدن التي هم منها، و كانت الرواية الصهيونية تقول : " أرض بلا شعي لشعب بلا أرض " ، و تزعم بخروج الفلسطينيين من التاريخ و الجغرافيا، فيحاول الإسرائيلي التصدي للرواية الفلسطينية من خلال المنع من إحياء ذكرى النكبة و تجنيد الأقلام التي تكتب لمصلحتهم ضد الرواية الفلسطينية أملاً في تماسك الرواية الفلسطينية .
حق العودة
جاء القرار 194 متضمناً حق عودة اللاجئين إلى أراضيهم، و هو حق تاريخي و شرعي و ينضوي على حق الفلسطيني في تحقيق مصيره، و حق الشعب الفلسطيني في أن تكون له دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشريف ضمن ضوابط إنسانية .
الإعلام الإسرائيلي
و من هنا يعمد الإعلام الإسرائيلي بكتابة مقالات مشوهة تصف تاريخ فلسطين بشكل صهيوني بحت، و استبعاد النكبة دون أدني مسئولية حتى يصلوا إلى مساعيهم و نيل الشرعية من خلال خطابهم و طمس الخطاب الفلسطيني عن طريق كتابة التاريخ المزيف للحقائق، إذ ارتكزت الرواية الصهيونية على إنكار النكبة و التعامل معها كابتداع و تزوير للتاريخ، و أيضاً التعامل معها كحدث مأساوي مستمر حتى يومنا هذا، و أن ذكرى النكبة تهديد متواصل لنزع الشرعية و الحق منهم، و الإعلام الصهيوني ينكر و يتنكر للنكبة بناء على أيدلوجيات سياسية و البعض الآخر منهم على أساس أسباب استراتيجية أو دبلوماسية .
و من هنا جاء الإعلام الإسرائيلي لابتكار الروايات و صياغتها للتأكيد للإعلام الغربي أن النكبة ضرب من ضروب " اللاسامية ، و أن عودة اليهود إلى فلسطين و ارتباطهم بها يعتبر جزء من عقيدتهم الدينية، و أنها رواية المنتصر .
و لتثبت الرواية القائلة بأنهم دخلوا في حرب ضد الاحتلال البريطاني و العربي، فكانوا يفوقوهم في العدد و العدة و كان الانتصار لهم، و بالتالي فإن الفلسطينيين غادروا لأن القادة العرب المنخرطين في الحرب طلبوا منهم ذلك مؤقتاً غاية أن تنتهي الحرب، و من ثم يرجعوا إلى بلادهم بعد تحقيق النصر .
الرواية الإسرائيلية
من بديهيات الأمور أن تنشأ رواية فلسطينية تفصيلية عن الصراع الوطني و القومي مناهضة للرواية الإسرائيلية، بناء على شواهد حقيقية ثابتة ؛ و من المفيد أن كل ما سبق لا يطرح قضية عودة اللاجئين، و بعد قيام دولة إسرائيل جاءت الرواية الرسمية ترسل صورة مثالية لأهداف تسويق الدولة الجديدة لدى يهود العالم ، و هكذا تم طمس الحقائق التاريخية بدون أي شعور بالمسئولية، و كل هذا يصب في خدمة المصالح الصهيونية، و من أبرز الروايات الإسرائيلية في النكبة، أنهم عملوا على تحييد كل ما هو شاذ و تشويه التاريخ، و لقد سميت هذه الروايات بالأساطير الصهيونية و اعتبروها وسيلة لتحقيق نبوءة ربانية، فكان واجباً وطنيا ًو دينياً، لذلك لا ترى الرواية الصهيونية مكاناً لغير اليهود و طرد الأغيار منها .
و لهذا السبب دمر الصهاينة أكثر من 400 قرية فلسطينية وقت النكبة، حتى تترسخ القيم الصهيونية العنصرية المبنية على أسطورة " شعب الله المختار" و سياسة احتقار الفلسطينيين، فجاء المؤرخون الجدد ليؤكدوا على الرواية الفلسطينية و لو حتى بطرق غير مباشرة .
الصهيونية هي حركة كولونيالية
يؤكد المؤرخون العرب أن الصهيونية هي حركة كولونيالية استعمارية و أن عملية الهجرة الصهيونية إلى فلسطين هي إقرار فعلي و عملي لأسس الاستعمار، و أن حرب 1948 هي جزء من عمليات التطهير العرقي للسكان الأصليين و إحلال المهاجرين مكانهم و على أرضهم؛ و قد أنتج المؤرخون الصهاينة روايات و كأنها صحيحة حسب الفكر الثقافي الإسرائيلي العام إضافة لذلك عملوا على تمجيد قادة إسرائيليين نفذوا مجازر ضد الفلســطينيين،و جرت تكتيكات و سيولوجيا الصراع من أجل تحقيق الغاية .
ومن جهة أخرى أكد مؤرخون إسرائيليين شباب أرادوا أن يكتبوا سيرورة الوعي التاريخي لدولتهم العبرية والهدف من ذلك تغيير الذهنية والتصورات الإسرائيلية المعاصرة التي تقود إلى ولادة دولة إسرائيلية، وذلك عن طريق التضليل الإعلامي الرسمي لاسيما فيما يتعلق بالعنف الذي يمارسونه ضد الشعب الفلسطيني م (النكبة الثقافية لتاريخ فلسطين )
وإذا تحدثنا عن النكبة الثقافية لتاريخ النهب والسرقة، والبيع لتوضيح استراتيجيات وآليات الإخفاء والتزوير وكثير من الأكاذيب والمغالطات التd ذكرتها الموسوعة اليهودية بعد النكبة؛ حيث يريدون إضلال المفاهيم الفكرية والعقائدية والسياسية للشعب الفلسطيني، ومن هنا فقد ظهر الكُتاب بكثرة بعد النكبة مباشرة، وذلك بسبب سيطرة الإمبريالية الغربية على مختلف الأفكار والآليات. وكل هذا أنشأ لدى الفلسطيني الحاجة الماسة إلى المعلومات المكتوبة، حيث أنهم جمعوا 15,000 كتاب في فرع لبيت الكتب القومي والجامعي، ومن ثم أعيرت الكتب للمكتبة الوطنية إعارة دائمة رغم أن الاحتلال قام بنهب الوثائق والمخطوطات والكتب حتى يضلل العالم؛ فقد نظر الصهاينة للفلسطيني نظرة إنكار لوجود فلسطين كأصلانيين ومن مظاهر المحو الثقافي بعد النكبة، محو مادي ومعنوي وتراثي وتاريخي والآثار والعمران وهذا منهجهم من أجل إنشاء كيان سياسي على حساب الجغرافيا الفلسطينية. ولقد بُترت النهضة الفلسطينية مع الهزات التي خلفتها النكبة؛ إذ نجم عنها فقدان مجموعات كتب وقصص خاصة وعامة وذهاب القصص مع ذهاب الناس الذين حملوا معهم الحقيقة في الذاكرة. وفي خضم تلك الأحداث قضت عمليات النهب والسرقة أثناء حرب النكبة وما بعدها على قسم كبير من الذاكرة الجمعية الفلسطينية.
مظاهر المحو والإنشاء
ظهر الوجود اليهودي من خلال قيام الحركة الصهيونية السياسية الجغرافية على الأرض الفلسطينية بعد استكمال عمليات المحو الفكري والثقافي للأصلاني، وكل ما حدث للكتب كان بمثابة خطوات، ومراحل للمحو والإنشاء وتحويل ذكرى النكبة إلى ذاكرة فلكورية عديمة المدلولات السياسية أو القانونية، حتى كانت تجرد الفلسطيني وتمنع العالم من رؤيته كضحية لسياساتها. وقد تنصل اليهود من أي ذنب يتعلق بالنكبة، لأن أي مسؤولية سوف توقعهم وتعزز المطالبة بحق العودة للاجئين العرب إلى بلادهم.
سيتحقق الحلم
لهذا كله، لابد من وقفة جادة أمام الانتهاكات التي تمارس ضد الشعب الفلسطيني والعمل على مساندة تقرير المصير، لأن فلسطين من بحرها إلى نهرها وبكل مدنها وضواحيها المحتلة تعيش فينا وبنا، وتعشعش في قلوبنا وأرواحنا، حب فلسطين هو حب سرمدي خالد في قلوب كل فلسطيني يحب الوطن، وكيف لا وهي الأراضي المقدسة والمباركة حتما يومًا سنعود ويتحقق الحلم مهما كان الليل طويلا، فلابد من بزوغ فجر الحرية والنصر؛ لأن الاحتلال إلى زوال مهما طمسوا صوت الحقيقة التي تفضحهم، وسوف نعود قريبا وتعود فلسطين التاريخية. ن أجل إقامة دولة إسرائيلية بأي ثمن .
كاتبة و ناقدة . فلسطينية مقيمة في اليمن
اترك تعليقك هنا لنعرف رئيك
تعليقات من قراء